جارٍ تحميل التاريخ...

أصول الفقه وقواعده – مباحث الحكم الشرعي -ذ. محمد المصلح

أصول الفقه وقواعده – مباحث الحكم الشرعي -ذ. محمد المصلح

اعتاد علماء الأصول لدى حديثهم عن الحكم الشرعي أن يتحدثوا عن أربعة عناصر هي: الحاكم والحكم، والمحكوم فيه والمحكوم عليه، وسأبينها اجمالا ثم أتناول بعضها بالتفصيل إن شاء الله.

 فالحاكم: هو الذي يصدر عنه الحكم وهو الله سبحانه وتعالى، سواء كان هذا الحكم الصادر عنه واردا في نص الكتاب أو السنة أو استنبط بالاجتهاد عن طريق الأدلة المعتبرة شرعا مثل: القياس والمصلحة والاستصحاب وغيرها، فالمجتهد حينما يعتمد هذه الأدلة والأمارات في استنباط الحكم إنما يظهر حكم الله ويكشفه فقط ولا ينشئه من عنده.

 أما الحكم: فهو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين وهو نوعان: حكم تكليفي وحكم وضعي.

 وأما المحكوم فيه: وهو أفعال المكلف وتصرفاته القولية والفعلية والقلبية أيضا لأن نية الإنسان يتعلق به الحكم الشرعي.

 وأما المحكوم عليه: فهو المكلف وهو الإنسان العاقل البالغ.

 هذه بإجمال العناصر الأربعة، أو الجهات الأربعة التي يتضمنها قسم الأحكام الشرعية.

 الحكم الشرعي: هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع.

موضوع الخطاب الشرعي هو فعل المكلف سواء كان من أفعال الجوارح، أو أفعال القلوب، كالنية، والقصد، والاعتقاد.

 ففعل المكلف إذن الذي يرتبط به الخطاب الشرعي، هو فعل وقول ونية، ويدخل في الفعل الكف عن الفعل لأن ترك الفعل مثل الفعل يرتبط به الخطاب الشرعي، وذلك مثل ترك الزنا والسرقة والخمر وغيرها من المنهيات، فالحرام المنهي عن فعله حكم شرعي لأنه مستفاد من الشرع أي من خطاب الله تعالى الذي أمر بتركه والكف عنه.

 ويخرج من عبارة: المتعلق بأفعال المكلفين، خطاب الله تعالى المتعلق بذاته كقوله عز وجل: ﴿شَهِدَ اَ۬للَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ﴾ [آل عمران: 18]، وكذلك الخطاب المتعلق بالجمادات كقوله: ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ اُ۬لْجِبَالَ وَتَرَى اَ۬لَارْضَ بَارِزَةٗ وَحَشَرْنَٰهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمُۥٓ أَحَداٗۖ﴾ [الكهف: 46]، وكذلك الخطاب المتعلق بذات المكلفين لا بأفعالهم؛ مثل قوله تعالى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَٰكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً ا۟خْر۪ىٰۖ﴾ [طه: 54].

والمراد بالمكلف الذي يتعلق خطاب الله بفعله الشخص البالغ العاقل. فالصبي لا يتعلق خطاب الشرع بفعله، وما ورد متعلقا بفعله فهو موجه إلى وليه، وكذلك غير العاقل لا يتعلق خطاب الله بفعله، لأن مناط التكليف هو العقل وهو فاقد له. والمراد “بالاقتضاء” في التعريف الطلب والطلب قسمان: طلب فعل وطلب ترك وطلب الفعل إذا كان على سبيل الإلزام سمي واجبا مثل قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ اُ۬لصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ اُ۬لزَّكَوٰةَۖ﴾ [البقرة: 82]، وإذا كان طلبا ليس فيه إلزام سمي مندوبا مثل قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ اِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّىٗ فَاكْتُبُوهُۖ﴾ [البقرة: 281] فقوله تعالى: ﴿فَاكْتُبُوهُۖ﴾ يتضمن طلبا من المكلف بكتابة الدين، لكن هذا الطلب لا يحمل على الوجوب لوجود قرينة صرفته عن الوجوب إلى الندب، والقرينة هي قوله تعالى: ﴿فَإِنَ اَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاٗ فَلْيُوَ۬دِّ اِ۬لذِے اِ۟وتُمِنَ أَمَٰنَتَهُۥۖ﴾ [البقرة: 282]، معناه أن الدائن له أن يكتفي بثقته بمدينه فلا يكتب الدين.

وطلب الترك إذا كان على وجه الإلزام سمي حراما كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَجَسَّسُواْۖ وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاًۖ﴾ [الحجرات: 12]، وإذا كان طلب الترك ليس فيه إلزام سمي مكروها؛ كقوله ﷺ: «لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يوما قبله أو بعده»، فالنهي عن إفراد يوم الجمعة بالصيام محمول عند الفقهاء على الكراهة لا على التحريم، وتنتفي الكراهة إذا صادف يوما يندب فيه الصيام كيوم عرفة أو عاشوراء أو صامه قضاء ليوم أفطره في رمضان، أما الإمام مالك فقد أجاز إفراد يوم الجمعة بالصيام من غير كراهة كما نص على ذلك في الموطأ.

 إذن هذا هو المراد بكلمة الاقتضاء الواردة في التعريف.

والمراد بكلمة التخيير الواردة في التعريف أيضا هو الفعل المباح الذي خير الشرع المكلف بين فعله وتركه؛ مثل قوله تعالى: ﴿وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اُ۬لْخَيْطُ اُ۬لَابْيَضُ مِنَ اَ۬لْخَيْطِ اِ۬لَاسْوَدِ مِنَ اَ۬لْفَجْرِۖ﴾ [البقرة: 186]، فالأمر في الآية “كلوا” لا يفيد الوجوب ولا الندب وإنما يفيد الإباحة.

 أما المقصود بكلمة “الوضع” الواردة في التعريف فهو الحكم الوضعي، وهو خطاب الله تعالى المتعلق بجعل الشيء سببا أو شرطا أو مانعا، أو صحيحا أو فاسدا أو عزيمة أو رخصة، فالحكم الوضعي لا يتعلق بفعل المكلف إنما يقتضي جعل شيء سببا لشيء آخر أوشرطا له أو مانعا منه، وذلك مثل دخول الوقت بالنسبة لوجوب الصلاة فقد جعل الشرع دخول الوقت سببا لوجوب الصلاة، ومثل الطهارة بالنسبة لصحة الصلاة، فقد جعل الشرع الطهارة شرطا لصحة الصلاة، ومثل عدم إرث غير المسلم من المسلم، فقد منع الشرع التوارث بين المسلم وغير المسلم؛ بالرغم من وجود السبب، وهو القرابة أو الزوجية.

 ويتبين مما سبق أن الحكم الشرعي قسمان: حكم تكليفي وحكم وضعي.

 فالحكم التكليفي هو: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين طلبا أو تخييرا.

 والحكم الوضعي هو: خطاب الله تعالى المتعلق بجعل شيء سببا لشيء آخر أوشرطا له أو مانعا منه أو جعله عزيمة أو رخصه أو صحيحا أو فاسدا كما سبق.

 أقسام الحكم التكليفي: سبق بيان أن الحكم التكليفي يندرج تحته خمسة أقسام، وهي الواجب، والمندوب، والحرام، والمكروه، والمباح، فما المراد بهذه الأحكام؟ وما تفاصيلها؟

1-الواجب: وهو ما طلب الشرع فعله من المكلف على سبيل الإلزام؛ مثل الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والوفاء بالعقود، ورد الامانات… فالمطلوب فعله يسمى الواجب، والحكم المرتبط به يسمى الوجوب، فالصلاة واجبة وحكمها الوجوب، ويستفاد الوجوب من فعل الأمر كقوله تعالى: ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِۖ﴾ [المائدة: 1]، ومن فعل المضارع المجزوم بلام الأمر كقوله تعالى: ﴿وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ اِ۬لْعَتِيقِۖ ﴾ [الحج: 27]، ومن التصريح بلفظ الأمر كقوله تعالى: ﴿اِنَّ اَ۬للَّهَ يَامُرُكُمُۥٓ أَن تُوَ۬دُّواْ اُ۬لَامَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهْلِهَا﴾[النساء: 57]، ومن فعل “كُتِب” كقوله عز وجل: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ اُ۬لصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى اَ۬لذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: 182]، ومن فعل “فرض” كقوله ﷺ: «قد فرض الله عليكم الحج فحجوا»، ومن حرف “على” المفيد للوجوب كقوله تعالى في وجوب النفقة للزوجات: ﴿وَعَلَى اَ۬لْمَوْلُودِ لَهُۥ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِۖ﴾[البقرة: 231]، وقوله تعالى: ﴿وَلِلهِ عَلَى اَ۬لنَّاسِ حَجُّ اُ۬لْبَيْتِ مَنِ اِ۪سْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاٗۖ﴾[آل عمران: 97]، وغيرها من الصيغ التي تفيد الوجوب في اللغة العربية.

وحكم الواجب أنه يلزم فعله ويثاب فاعله ويأثم تاركه، والفرض والواجب لهما معنى واحد عند جمهور الأصوليين، وعند الحنفية يطلق الفرض على ما ثبت بدليل قطعي؛ مثل: الصلاة والزكاة والصوم وغيرها من العبادات الثابتة بأدلة قطعية، كنص القرآن والسنة المتواترة والإجماع.

 ويطلق الواجب على ما ثبت حكمه بدليل ظني كحديث الآحاد والقياس، أما عند الجمهور فالواجب والفرض معناهما واحد سواء ثبت حكمهما بدليل قطعي أو ظني.

وهذا الاختلاف بين الجمهور والحنفية لا تترتب عليه آثار من الناجية العملية، فكل من الواجب والفرض يجب الإتيان به، ويأثم من تركه بلا عذر شرعي.


تصنيفات

At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.

Melbourne, Australia
(Sat - Thursday)
(10am - 05 pm)